عندما طالبت الشعوب العربية باسقاط النظام هنا وهناك، لم يكن لديها تصوّر مُفصّل حول طبيعة نظام ما بعد الثورة تتعدّى كونة نظاماً ديمقراطياً يتميّز بالشفافية واحترام حقوق المواطن وانعدام الفساد والمسؤليّة امام الشعب. ولكن بروز نزاعات صفرية بين مختلف القوى السياسية وممارسات اقصائية وحالة من الاحتقان والشعور بالاحباط في البلاد التي شهدت سقوط النظام القديم، كلّها تنبع من تجاهل عام لاطروحة مبدئية وبسيطة، الا وهي أن النظام الأكثر مناسبة لمرحلة ما بعد الثورة هو نظام يُجسّد روح الثورة. ولكن بدلاً من التفكير الخلاق حول ماهية روح الثورة وكيفية تسجيدها، اتجهنا فوراً إلى بناء أنظمة تعتمد أنماطاً مألوفة من التجربة الغربية، حيث تتمحور الحياة السياسية حول الأحزاب وصراعاتها وتحالفاتها والانتخابات التي تُنتج مجلساً يُمثّل الشعب، ولكن لا يُمكّن الشعب من ممارسة السياسة والقرار بشكل مباشر. ونسينا هنا أن كل هذة الامور تُخالف تماماً روح الثورات العربية، والتي لم تُنتجها الأحزاب وإنما قام بها في الغالب المواطنون العاديون الذين لم يكن لهم أية انتمائات حزبية ولا اهتمامات أيدلولوجية قبل أو بعد الثورات، والذين رفضوا خلال الحراك الثوري أن تُمثّلهم أية قيادة واصرّوا على ابراز الدور الخلاق للإنسان العادي كصانع للتاريخ، وليس على دور القائد أو الحزب أو التنظيم.
إن كانت هذة السمات تصف روح الثورة، يُصبح السؤال: ما هي طبيعة النظام السياسي الذي يُمكن أن يُجسّد هذه الروح؟ والجواب هو أن نظام ما بعد الثورة ينسجم مع طبيعة الثورة إذا اعتمد على الدور الخلاق والمباشر للمواطن العادي، وليس إذا اعتمد على الأغلبية النيابية وتمثيل المجتمع من خلال الأحزاب التي لا ينتمي معظم الناس إليها بأية حال، أو من خلال قيادات أفرزها نظام انتخابي وظيفتة ابراز القيادات، رغم أن الثورات لم تقم على ولائات لا لأحزاب ولا لأي نوع من القيادات. أذا هنا نلاحظ أن الكثير من التخبّط واضمحلال وضوح الرؤية بعد الثورة يعود إلى نُظم ما بعد الثورة والتي تعتمد على الحملات الانتخابية وحكم الأغلبية والديمقراطية التمثيلية، التي لا تعكس في الواقع روح الثورة وإنما خيارات النُخب السياسية الموجودة. بالمقارنة مع هذه الحالة، يبدو أن مفهوم الديمقراطية التشاركية أكثر تطابقاً مع طبيعة هذة الثورات.
تعتمد الديمقراطية التشاركية على دور المواطن المباشر في صُنع القرار، بدلاً من الحكومات أو المجالس المُنتخبة. وتاريخياً انحصرت ممارسة الديمقراطية التشاركية، رغم أنها لم تُسمّى دائماً كذلك، على بعض أوجة النظام القبلي والعشائري التقليدي في مختلف أنحاء العالم، وبعض المدن المستقلة في أوروبا في مرحلة ما بعد العصور الوسطى وأثينا القديمة في بعض مراحلها والمؤسسات الحرفية في مراحل ما قبل الاستعمار وبعض المناطق اللاسلطوية في إسبانيا خلال الحرب الأهلية في ثلاثينات القرن الماضي وبعض الكانتونات في سويسرا. وفي الفترة المعاصرة استُعيدت فكرة الديمقراطية التشاركية على نطاق محدود في بعض المدن الحديثة، كان أولها وأشهرها بورتو اليغري في البرازيل، قبل أن تتوسع الفكرة وتُمارس في مدن أخرى في أمريكا الجنوبية وأوروبا والصين. وقد استنجت دراسات لهذة التجارب، بما فيها دراسة للبنك الدولي، إنها تؤدي إلى تحسين مستوى المعيشة وزيادة شعور الناس بدورهم في تقرير مصيرهم. وليس هناك حتى الآن تجربة للديمقراطية التشاركية على مستوى بلد بأكملة، ولكن هذا لا يمنع من استخلاص العبر من التجارب الموجودة، وخاصة لأنها تبدوا أشد انسجاماً مع روح الثورات العربية من الديمقراطية التمثيلية والحياة الحزبية، وبالنظر إلى وجودكم كبير من النقد المعاصر لمحدودية الديمقراطية التمثيلية وتراجع حماس الجمهور لها في الدول الديمقراطية العريقة.
يعتمد نظام الديمقراطية التشاركية على كثافة المشاركة الشعبية، وهذا مما يجعلها مناسبة للحالات الثورية والتي تتميّز بالتعبئة العامة والوعي السياسي المرتفع والشعور المُنتشر بضرورة ممارسة الإنسان لحقّة في المشاركة في تقرير مسار المجتمع. وفي التجارب المعروفة لدينا تُترجم هذة المسائل غالباً إلى قدرة المواطنين على إقرار الميزانية العامة وتحديد المشاريع التي تستحق الأنفاق عليها، ويتلخّص دور الحكومة في تنفيذ قرارات المواطنين. ورغم أن مثل هذة القرارات تبدوا بحاجة بعض الاحيان إلى خبرة تقنية لا يملكها معظم الناس، يمكن لأنظمة الديمقراطية التشاركية استشارة الخبراء تماماً كما تستشيرهم الحكومات، ولكن الفرق في حالة الديمقراطية التشاركية أن السياسات المُقررة تصبح مفهومة وواضحة ومُتّفق عليها بين الجمهور، وتنتفي منها سمات الغموض والفوقية والإقصائية. ورغم أن إحدى المعضلات اللوجستية المتعلقة بممارسة الديمقراطية التشاركية هي كيفية تنظيم مشاركة عدد كبير من الناس في نقاشات مُستفيضة وقرارات جماعية، تُقدّم لنا التجارب الموجودة بعض الحلول الخلّاقة، مثل تصغير حجم الاجتماعات الشعبية وزيادة عددها واستعمال تكنولوجيا الاتصالات الحديثة.
هذا النوع من الديمقراطية لا يحتاج إلى قادة تاريخيين ولا إلى أحزاب لا تخدم في النهاية إلّا نفسها، بقدر ما تحتاج مُنسّقين. ومما يبدوا مُذهلاً أن الثورة السورية كانت أول من اكتشف كيفية استبدال مفهوم القيادة بمفهوم التنسيق. فالتنسيقيات لا تقود وانّما تُنسّق قدر الإمكان حراكاً شعبياً شاملاً ومُعقداً على مستوى بلد بأكملة. فالثورة السورية مثل كل الثورات العربية ليس لها قائد ولا يبدوا أن الثوار انفسهم يهتمون بالقيادة المركزية البعيدة عنهم، بقدر ما يهتمون بالتنسيق العملي القريب من واقعهم المحسوس. وفي المناطق المُحررة نرى كذلك بوادر الديقراطية التشاركية ليس كفكرة نظرية بل كضرورة عملية، تُصيب وتُخطيء، ولكن في النهاية يتعلّم منها الناس كيفية إدارة شوؤنهم بنفسهم ومغزى انهيار دور القمع والسلطوية في مسائل ادارة المجتمع. وقد اثبتت ممارسات أخرى خلال الثورات، مثل اللجان الشعبية في مصر وتونس، قدرة المجتمع على تنظيم نفسة في ظلّ غياب الدولة، رغم أن هذه التجارب لم يتم استثمارها كدروس تنظيمية لمرحلة ما بعد الثورة.
وكما يتناقض مفهوم الديمقراطية التشاركية مع مفهوم الديمقراطية التمثيلية، يتناقض أيضاً مع مفهوم الدولة القوية. هنا يجب الإشارة إلى واقع فكري مُستشري، ويتمثّل في تغييب أي مفهوم سياسي ينتاقض مع مفهوم الدولة القوية خلال الحقبة الاستبدادية المعاصرة الممتدة على أكثر من أربعة عقود من الزمن الراكد. ونظراً لذلك لم يملك الكثير من الثوار العرب وعياً مختلفاً عن هذا المفهوم لطبيعة الدولة، وانحصرت رؤيتهم باستبدال دولة قوية مستبدة بدولة قوية مدنية. المدافعون عن الدولة القوية يعتقدون أنّها ضرورية لأسباب عدة، أهمّها ارشاد التنمية وضمان الأمن الداخلي والدفاع ضد الخطر الخارجي وضمان احترام الحقوق. وقد انتقدت كل هذة المقولات باستفاضة فيكتابي حول النظام اللاسلطوي، وليس هنا مجال إلّا لنقد مُختصر. فحول موضوع التنمية مثلاً، أثبتت العديد من الدراسات أن مشاريع التنمية الفوقية التي لا تأخذ بالحسبان رأي الناس المعنيين كثيراً ما تؤدي إلى كوارث اقتصادية واجتماعية وبيئية كان يمكن تجنّبها لو كان هناك مشاركة شعبية حقيقية في صنع القرار، وهذا ما تضمنة الديمقراطية التشاركية. أما حفظ الأمن الداخلي فلا يتناقض مع الديمقراطية التشاركية والتي تعتمد على أخذ رؤية الناس في كيفية ونوعية الأمن المطلوب، كما وأن الممارسة الديمقراطية الواسعة تُخفف بحد ذاتها من الشعور بالغبن وانعدام العدالة، ولذلك تؤدي إلى تنشيف مستنقعات التهديدات الأمنية. وهنا يجب أن نتذكر أن الدول التي تتمتع بنسبة متدنية من الجرائم تمتلك في العادة قوة شرطة محدودة العدد ولا تصل أبداً إلى الأمن عبر كمّ هائل من القوة. أما مسئلة الخطر الخارجي فهذا واقع لا يمكن التغاضي عنة في منطقة مثل العالم العربي، ولكن هنا ايضاً لا نرى تناقضاً بين الدفاع والديمقراطية التشاركية. فمثال سويسرا التي لم يغزها احد حتّى في الحرب العالمية الثانية التي دمّرت كل أوروبا، تمتلك نظاماً دفاعياً يعتمد التعبئة العامة والسريعة في حال الخطر، رغم أنها دولة مغرقة في اللامركزية. وهنا يجب التذكير بأن وجود جيش وطني لا يتعارض مع مفهوم الديمقراطية التشاركية، بل أن الاخيرة هي أفضل ضمان لابقاء المؤسسة العسكرية تحت سلطة الشعب. وحول موضوع ضمان الحقوق أود هنا أن أُذكّر بمبدأ بديهي، الا وهو أن الحقوق لا تضمنها مجرد قوانين ودساتير لا يقرأها أو يعرف بها الكثيرون، بل قبول شعبي واسع واستعداد للدفاع عن تلك الحقوق. وهذا القبول الواسع للحقوق والاستعداد للدفاع عنها كلاهما يجد اطاراً تنفيذياً لهما في الديقراطية التشاركية.
وكي لا يُساء الفهم أود أن انهي هذة المقالة بالتذكير بأن الديمقراطية التشاركية تختلف تماماً عن ادعائات ديمقراطية قد تبدوا مماثلة ولكن ليس لها أية علاقة بأي نوع من الديمقراطية. وأخص بالذكر هنا جماهيرية القذافي، والتي كانت تدّعي أنها مبنية على حكم الشعب لنفسة، بينما في الواقع كان الشعب محكوماً بيد من حديد من قبل حفنة من اللصوص والطغاة. هذا التراث الاستبدادي لم يُنسى، ولذلك نرى في ليبيا ذات النقد العفوي لفكرة الدولة المركزية القوية الذي نراه في بلاد الثورة الأُخرى، وشعور عام بأن ما يحتاجة المجتمع الآن هو نظام قادر على احترام الخصوصيات المحلية، وغير قادر على تهميش أية منطقة أو فئة من الشعب. وهذه السمات تقع في صُلب ما تضمنة الديمقراطية التشاركية أكثر من أي نظام آخر.